بسم الله الرحمن الرحيم
(شهر رجب)
إن الحمدَ لله، نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونستهديه،
ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا، ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلَّ
له، ومن يضللْ فلا هاديَ لهُ،
يا رَبِّ إِن عَظُمَت ذُنوبي كَثرَةً فَلَقَد عَلِمتُ بِأَنَّ عَفوَكَ
أَعظَمُ
إِن كانَ لا يَرجوكَ إِلّا مُحسِنٌ فَبِمَن يَلوذُ وَيَستَجيرُ المُذْنِبُ
ما لي إِلَيكَ وَسيلَةٌ إِلا الرَجا وَجَميلُ عَفوِكَ ثُمَّ أَنّي
مُسلِمُ
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن
محمدًا عبدُه ورسولُ، وصفيه وخليله بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد
في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾.
أما بعد:
إِنَّ
مِنْ جُمْلَةِ مَا أَمَرَ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ سَيِّدَنَا مُوسَى عَلَيْهِ
اَلسَّلَامُ أَنْ يُذَكِّرَ قَوْمَهُ بِأَيَّامِ اَللَّهِ، فَقَالَ جُلٌّ وَعَلَا
"وَذَكَّرَهُمْ بِأَيَّامِ اَللَّهِ".
تِلْكَ
اَلْأَيَّامُ اَلَّتِي امْتَنَّ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ بِالنِّعَمِ،
وَتِلْكَ
اَلْأَيَّامُ اَلَّتِي فِيهَا مِنَ اَلْفَضَائِلِ وَالْبَرَكَاتِ مَا فِيهَا.
فَجَاءَ
اَلْأَمْرُ بِالتَّذْكِيرِ بِهَذِهِ اَلْأَيَّامِ، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ،
لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى اَللَّهِ.
وَنَحْنُ
فِي هَذِهِ اَلْأَيَّامِ اَلْمُبَارَكَةِ نَسْتَفْتِحُ أَيَّامًا مِنْ أَيَّامِ
اَللَّهِ.
نَسْتَفْتِحُ
أَوَّلَ أَيَّامِ شَهْرِ رَجَبْ، وَهُوَ شَهْرٌ حَرَام، أَيُّ مِنَ اَلْأَشْهُرِ
اَلْمُحَرَّمَةِ،
سَمَّاهُ
اَلْعَرَبُ قَبْلَ اَلْإِسْلَامِ رَجَبْ، وَأَبْقَى اَلْإِسْلَامُ عَلَى
تَسْمِيَتِهِ بِهَذَا اَلِاسْمِ،
وَسُمِّيَ
رَجَبًا، لِأَنَّ اَلنَّاسَ كَانُوا يُرَجِّبُونَهْ، أَيْ يُعَظِّمُونَهُ. فَهُوَ
شَهْرٌ لَهُ شَأْنٌ عَظِيمٌ عِنْدَ اَلْعَرَبِ. وَكَانَ لَهُ شَأْنٌ عَظِيمٌ فِي
اَلْإِسْلَامِ أَيْضًا.
يقولُ
اللهُ عزَّ وَجَل:﴿یَسۡءَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهۡرِ ٱلۡحَرَامِ قِتَالࣲ فِیهِۖ قُلۡ
قِتَالࣱ فِیهِ كَبِیرࣱۚ ﴾
اَلْأَشْهُرُ اَلْحُرُم - جَعَلَ اَللَّهُ تَعَالَى
فِيهَا اَلْقِتَالَ مُحَرَّمًا، لَكِنْ مَاذَا إِذَا اِعْتُدِيَ عَلَى
اَلْمُسْلِمِينَ فِي اَلْأَشْهُرِ اَلْحُرُم، وَفِي اَلْأَمَاكِنِ اَلْحُرُم؟
مَاذَا نَفْعَلُ؟ هَلْ نَقُولُ إِنَّ اَلْقِتَالَ مُحَرَّمٌ فِي اَلْأَشْهُرِ
اَلْحُرُم؟ ﴿یَسۡءَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهۡرِ ٱلۡحَرَامِ
قِتَالࣲ فِیهِۖ قُلۡ قِتَالࣱ فِیهِ كَبِیرࣱۚ﴾
لكنْ
هُنالِكَ مَا هُوَ أَكْبَر ﴿وَصَدٌّ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ وَكُفۡرُۢ بِهِۦ وَٱلۡمَسۡجِدِ
ٱلۡحَرَامِ وَإِخۡرَاجُ أَهۡلِهِۦ مِنۡهُ أَكۡبَرُ عِندَ ٱللَّهِۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ
أَكۡبَرُ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۗ﴾
تُبَيِّنُ
اَلْآيَةُ اَلْكَرِيمَةُ أَنَّ هُنَاكَ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنَ اَلْقِتَالِ،
هُنَاكَ مَنْ يَصُدُّ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ، وَمِنْ يُخْرِجُ اَلنَّاسَ مِنْ
أَوْطَانِهِمْ، وَمَنْ يُشَرِّدُ اَلنَّاسَ وَيَقْتُلُهُمْ، هَؤُلَاءِ اَلَّذِينَ
يُمَارِسُونَ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنَ اَلْقِتَال، وَجَبَ قِتَالُهُمْ دِفَاعًا
عَنِ اَلنَّفْسِ وَعَنِ اَلْأَوْطَان، حَتَّى وَإِنْ كَانَ فِي اَلْأَشْهُرِ
اَلْحُرُم.
فِي
شَهْرِ رَجَبْ اِسْتَنْفَدَ اَلنَّبِيُّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَقْصَى طَاقَاتِهِ، وَبَذْلَ كُلَّ أَسْبَابِهِ، لِيَدْعُوَ إِلَى اَللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ فِي اَلطَّائِفِ، فَأَخْرَجَهُ مِنْهَا أَهْلُهَا.
وَخَرَجَ وَقَدْ أُدْمِيَتْ قَدَمَاهُ اَلشَّرِيفَتَانِ
كَمَا تَعْلَمُونَ. وَأَسْنَدَ ظَهْرَهُ إِلَى جِدَارٍ دَاعِيًا إِلَى اَللَّهِ
بَاكِيًا مُتَضَرِّعًا. قَالَ: اَللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتَي،
وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى اَلنَّاسِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ
غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي.
كَانَ هَذَا فِي رَجَبْ، فَسَرَى اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
عَنْهُ. وَخَفَّفَ عَنْهُ، وَنَصْرَهُ فِي رَجَبْ. حِينَمَا كَانَتْ رِحْلَةُ
اَلْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ.
أُسْرِيَ بِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ
إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى فِي شَهْرِ رَجَبْ، أَخَذَ بِالْأَسْبَابِ،
فَنَصَرَهُ اَللَّهُ وَأَيَّدَهُ وَأَعَزَّهُ بِرِحْلَةِ اَلْإِسْرَاءِ
وَالْمِعْرَاجِ، كُلُّ هَذَا كَانَ فِي شَهْرِ رَجَبْ.
اَلْيَوْم: اَلْمُسْلِمُونَ يَدْعُونَ اَللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ وَيَبْتَهِلُونَ إِلَيْهِ وَيَقُولُونَ: اَللَّهُمَّ إِلَيْكَ نَشْكُو
ضَعْفَ قُوَّتِنَا، وَقِلَّةَ حِيلَتِنَا، وَهَوَانَنَا عَلَى اَلنَّاسِ.
وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ اَلْقَائِلُ: ﴿ٱدۡعُونِیۤ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ﴾ لَكِنْ
أَنَّا يُسْتَجَابُ لَمِنْ لَمْ يَأْخُذْ بِالْأَسْبَابِ؟
وَهُوَ اَلْقَائِلُ جَلَّ فِي عُلَاهُ:﴿وَأَعِدُّوا۟
لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةࣲ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَیۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ
عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِینَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ
یَعۡلَمُهُمۡۚ ﴾.
حِينَمَا نَدْعُو اَللَّهَ تَعَالَى بِأَنْ يَنْصُرَنَا
دُونَ أَنْ نَأْخُذَ بِأَسْبَابِ اَلنَّصْرِ! كَيْفَ سَيَنْصُرُنَا؟ نُصُوصُ
اَلْقُرْآنِ لَا تُؤْخَذُ مُجَزِّئَةً وَلَا مُقَطَّعَةً، وَإِنَّمَا هِيَ
وَحْدَةٌ وَاحِدَةٌ، حَتَّى يَكُونَ اَلْمِنْهَاجُ كَامِلاً، وَالتَّصَوُّرُ
واضِحًا، وَتَكَوُّنَ سَلُوكَاتُ اَلْمُسْلِمِينَ مُنْسَجِمَةً بَعْضُهَا مَعَ
بَعْضِ.
لِذَلِكَ "اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ"،
دَعَوْنَاكُ يَا رَبُّ وَلَمْ تَسْتَجِبْ لَنَا.
فَمُنْذُ سَبْعِينَ عَامًا وَالْأُمَّةُ تَدْعُو أَنْ
يَنْصُرَهَا اَللَّهُ عَلَى اَلصَّهَايِنَةِ وَمَنْ وَالاهُم، وَلَا يَزْدَادُ
اَلصَّهَايِنَةُ إِلَّا قُوَّة، وَلَا يَزْدَادُ قَوْمُنَا إِلَّا مُوَالَاةً
لَهُمْ. لِمَاذَا يَا رَبّ؟ لِأَنَّنَا لَمْ نُعِدَّ مَا اِسْتَطَعْنَا مِنْ
قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ اَلْخَيْلِ.
بَلْ عَلَى اَلْعَكْسِ إِنَّنَا اَلْيَوْمَ نُسَارِعُ
فِيهِمْ، وَنَسْتَرْضِيهِمْ وَنَرْجُوهُمْ وَنَرْتَجِيهِمْ.
وَأَصْبَحَتْ خَيْرَاتُ اَلْعَالَمِ اَلْعَرَبِيِّ
وَالْإِسْلَامِيِّ رَهْنَ إِشَارَتِهِمْ، وَرَهْنَ أَوَامِرِهِمْ.
يَعِيشُ اَلْعَالَمُ اَلْعَرَبِيُّ وَالْإِسْلَامِيُّ
فَقْرًا مَا بَعْدَهُ فَقْر، رَغْمَ اَلْخَيْرَاتِ اَلَّتِي فِي بَطْنِ أَرْضِهِم.
وَلَكِنَّ اَلْأَمْرَ لَمْ يَعُدْ بِأَيْدِيهِمْ لِأَنَّ عَدُوَّهُمُ اَلْيَوْمَ
يَتَحَكَّمُ بِكُلِّ مَقْدِرَاتِهِمْ وَمُقَدَّسَاتِهِمْ وَثَرَوَاتِهِمْ.
لِذَلِكَ عِنْدَمَا نَقُول: إِلَيْكَ نَشْكُو ضَعْفَ
قُوَّتِنَا، وَقِلَّةَ حِيلَتِنَا دُونَ أَنْ نُفَعِّلَ أَمْرَ اَللَّهِ فَلَنْ
يَتَغَيَّرَ شَيْء.
وَنَحْنُ نَسْتَقْبِلُ شَهْرَ رَجَبْ - نَتَذَكَّرُ اَلْمُفَارَقَةَ
اَلتَّارِيخِيَّةَ اَلْعَجِيبَة بَيْنَنَا وَبَيْنَ تَأرِيخِ اَلْمُسْلِمِينَ فِي
رَجَبْ.
فِي رَجَبْ كَانَتْ رِحْلَةُ اَلْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ.
فِي رَجَبْ كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوك - اَلَّتِي فَضَحَ اَللَّهُ فِيهَا
اَلْمُنَافِقِينَ.
فِي رَجَبْ حَرَّرَ صَلَاحُ اَلدِّينِ الأيوبيّ اَلْمَسْجِدَ
اَلْأَقْصَى، وَفَتَحَ اَلْقُدْسَ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ بِالْأَسْبَابِ وَأَعَدَّ
إِعْدَادًا مُحْكَمًا لِهَذِهِ اَللَّحْظَةِ اَلتَّأرِيخِيَّةِ.
سَنَوَاتٌ مِنَ اَلْأَخْذِ بِالْأَسْبَاب، فَلَمَّا
قَالَ مَعَهَا وَبَعْدَهَا يَا رَب، اِسْتَجَابَ اَللَّهُ لَهُ وَمَكَّنَهُ مِنَ
اَلنَّصْرِ.
هَذَا هُوَ شَهْرُ رَجَبْ فِي تَارِيخِنَا، يَنْبَغِي
أَنْ يُوقِظَ فينا مَعَانِيَ اَلْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ، وَمَعَانِيَ
اَلْمُقَارَنَاتِ بَيْنَ اَلْمَاضِي وَالْحَاضِرِ، لِنَرَى أَيْنَ اَلْخَلَل؟ مِنْ
أَجْلِ مُحَاوَلَةِ إِصْلَاحِهِ.
رَجَبُ فِي يَوْمِنَا هَذَا هُوَ رَجَبُ اَلشُّهَدَاء،
وَرَجَبُ اَلدِّمَاء، هُوَ رَجَبُ اَلِاقْتِحَامَاتِ، هَؤُلَاءِ اَلَّذِينَ
اِرْتَقَوْا إِلَى اَللَّهِ شُهَدَاءَ فِي غَزَّةَ وَفِي اَلضَّفَّة،
اِسْتَنْفَدُوا مَا لَدَيْهِمْ مِنْ أَسْبَاب، وَاسْتَغْرَقُوا مَا لَدَيْهِمْ
مِنْ طَاقَاتٍ، فَكَانَ قَدَرُ اَللَّهِ لَهُمْ أَنْ يَرْتَقُوا إِلَيْهِ
شُهَدَاء. مَاذَا عَنْ أَخْذِنَا نَحْنُ اَلْعَرَبُ وَالْمُسْلِمُونَ
بِالْأَسْبَاب؟ اَلْأَسْبَابِ اَلْمَادِّيَّة، اَلْأَسْبَابِ اَلْعَسْكَرِيَّة،
اَلْأَسْبَابِ اَلسِّيَاسِيَّةِ وَالِاقْتِصَادِيَّة، مَاذَا فَعَلْنَا؟ وَمَاذَا
حَرَّكْنَا؟
وَلِذَلِكَ تَأْتِي هَذِهِ اَلْأَيَّامُ اَلْمُبَارَكَة،
اَلَّتِي نَتَهَيَّأُ فِيهَا لِاسْتِقْبَالِ شَهْرِ رَمَضَانْ، اَلَّذِي
لَطَالَمَا قُلْنَا عَنْهُ إِنَّهُ شَهْرُ اِنْتِصَارَات. تَأْتِي هَذِهِ
اَلْأَيَّامُ اَلْمُحَرَّمَةُ اَلْمُبَارَكَةُ مِنْ شَهْرِ رَجَبْ، لِتُذَكِّرَنَا
بِمَعْنَى اَلْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ، حِينَمَا نَتَعَامَلُ مَعَ رَبِّنَا وَمَعَ
عَدُوّنَا فَيُيَسِّرَ اَللَّهُ لَنَا اَلْأَمْر؟
فِي هَذَا اَلْكَوْنِ سُنَنٌ لَنْ تَجِدَ لَهَا
تَبْدِيلاً، وَلَنْ تَجِدَ لَهَا تَحْوِيلاً، وَهِيَ سُنَنُ اَللَّهِ عزَّ وَجلَّ،
فَإِنَّ زَمَنَ اَلْمُعْجِزَاتِ قَدْ فَاتَ وَوَلَّى، وَآنَ لَنَا أَنْ نُرَاجِعَ
اَلْحِسَابَات.
وَنَأْخُذَ بِأَسْبَابِ اِنْتِصَارِنَا عَلَى
أَعْدَائِنَا، بَعْدَ دِرَاسَةِ أَسْبَابِ اَلْهَزِيمَةِ اَلَّتِي نُعَانِيهَا
اَلْيَوْمَ، وَاَلَّتِي نَرَى فِيهَا اِسْتِخْفَافَ اَلْعَدُوِّ بِنَا
وَبِمُقَدَّسَاتِنَا وَبِأَعْدَادِنَا وَبِكَيانِنَا،.
إِنْ كُنَّا نَتَحَدَّثُ عَنِ اَلْمُسْلِمِينَ،
فَالْمُسْلِمُونَ اَلْيَوْمَ ما يُقارِبُ الْمليارين، كُلُّ هَؤُلَاءِ لَا يُقِيمُ
اَلصَّهَايِنَةُ لَهُمُ وَزْنًا. وَلَنَا أَنْ نَسْأَلَ لِمَاذَا؟ وَأَنْ نَقِفَ
عَلَى اَلْأَسْبَابِ اَلْحَقِيقِيَّةِ؟ وَنُعَالِجَهَا بِأَسْبَابٍ حَقِيقِيَّة،
ثُمَّ نَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ يَا رَبْ، حِينَهَا سَنَجِدُ اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
سَمِيعًا مُجِيبًا قَرِيبا. يُبَدِّلُ أَحْوَالَنَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ.
﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ یُغَیِّرُوا۟
مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ﴾
نَحْنُ اَلْيَوْمَ بِحَاجَةٍ لِإِعَادَةِ نَظَرٍ فِي سِيَاقِ عَلَاقَتِنَا
مَعَ أَعْدَائِنَا، وَعَلَاقَتِنَا مَعَ أَنْفُسِنَا وَرَبِّنَا.
وَلِذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ إِعَادَةِ تَرْسِيمِ
العلاقاتِ عَلَى هَذَا اَلْأَسَاسِ.
فَلَوْ كَانَتِ اَلْعَلَاقَةُ مُسْتَمَدَّةٌ مِنْ
كِتَابِ اَللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَما
تَجَرَّأَ عَلَيْنَا مُتَجَرِّأٌ عَلَى اَلْإِطْلَاق. لَكِنَّهُمْ يَتَجَرَّؤُونَ
لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَوَانٍ وَبُعْدٍ وَذُل.
فِيتْجِرْؤُونَ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَنَا فِي نَظَرِهِمْ.
يَأْتِي شَهْرُ رَجَبْ - بِهَذِهِ اَلْأَيَّامِ
اَلْمُبَارَكَةِ. وَبِمَا يَحْوِيهِ مِنْ ذِكْرَيَاتٍ تَارِيخِيَّةٍ فَارِقَةٍ فِي
تَارِيخِ اَلْمُسْلِمِينَ، يُذَكِّرُنَا بِهَذَا اَلتَّارِيخِ، وَبِالْمُفَارَقَةِ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ اَلْوَاقِعِ - لِنَسْتَيْقِظَ وَلِنُعِيدَ اَلْحِسَابَاتِ -
وَلِنَنْوِيَ نِيَّةَ اَلتَّغْيِيرِ شُعُوبًا وَأَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ
وَحُكُومَات. لَعَلَّ اَللَّهَ يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو
الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وسلام على نبيه الذي اصطفى
أما بعد:
يَقولُ رَبُّنا جلَّ وَعَلا: ﴿وَقَالَ ٱلرَّسُولُ یَٰرَبِّ
إِنَّ قَوۡمِی ٱتَّخَذُوا۟ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ مَهۡجُورࣰا﴾، شَكْوَى رَسُولُ
اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى اَللَّهِ يَشْكُو أُولَئِكَ
اَلَّذِينَ هَجَرُوا اَلْقُرْآنَ اَلْكَرِيم.
يَظُنُّ كَثِيرُونَ أَنَّ اَلْهَجْرَ هُنَا مَقْصُورٌ
عَلَى هَجْرِ تِلَاوَتِهِ، وَهَذَا لَيْسَ صَحِيحًا، فَهَجَرُ اَلتِّلَاوَةِ
شَكْلٌ مِنْ أَشْكَالِ اَلْهِجْرَانِ. اِتَّخَذُوا هَذَا اَلْقُرْآنَ مَهْجُورًا
فِي سِيَاسَتِهِمْ، اِتَّخَذُوهُ مَهْجُورًا فِي اِقْتِصَادِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ
وَمُعَامَلَاتِهِمْ وَمِيرَاثِهِمْ، وَبَيْعِهِمْ وَشِرَائِهِمْ.
حينَمَا يتعارَضُ مَعَ مَصالِحِهِمْ يَهْجُرونَه، وَحينَمَا
يَتَّفِقُ مَعَ مَصالِحِهِم يُتاجرونَ بآياتِه، فَيَشْتَرونَ بِها ثَمَنًا قَليلا.
﴿وَقَالَ ٱلرَّسُولُ یَٰرَبِّ إِنَّ قَوۡمِی ٱتَّخَذُوا۟ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ
مَهۡجُورࣰا﴾
لَوْ فَعَّلَتِ اَلْأُمَّةُ هَذَا اَلْقُرْآنَ فِي
حَيَاتِهَا بِمُخْتَلِفِ مَنَاحِيهَا، لَأَتَقَنَتْ كَيْفَ تَتَعَامَلُ مَعَ
اَلْعَدُوِّ فِي سِلْمِهَا وَحَرْبهَا؟ ولَأَتْقَنَتْ كَيْفَ تَتَعَامَلُ فِيمَا
بَيْنَهَا؟ وَكَيْفَ تَتَعَامَلُ فِي بَيْعِهَا وَشِرَائِهَا، هَذَا هُوَ
اَلْقُرْآنُ اَلَّذِي إِنْ هَجَرْنَاهُ شَكَانَا رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى اَللَّهِ.
هذا هُوَ القرآنُ الذي كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وَسَلَّمَ يَدْعو بِهِ وَإلَيْهِ كُفَّارَ قُرَيْش. القرآنُ الذي يُصْلِحُ الحالَ
والأَحْوال، القُرْآنُ الذي يَحْوي دُسْتورًا للحياة، وَمَنْهَجًا للعِزَّةِ والْمَنَعَة.
﴿ لَقَدۡ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكُمۡ كِتَٰبࣰا فِیهِ ذِكۡرُكُمۡۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ﴾
﴿وَإِنَّهُۥ لَذِكۡرࣱ لَّكَ وَلِقَوۡمِكَۖ وَسَوۡفَ
تُسۡءَلُونَ﴾
لَمَّا اِسْتَأْذَنَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَة - سَادَةَ
مَكَّةَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِيَعْرِضَ عَلَيْهِ أُمُورًا لَعَلَّهُ يَقْبَلُ بِهَا. وَأَذِنُوا لَهُ
بِذَلِكَ، ذَهَبَ عُتْبَةُ إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم، وَقَالَ لَهُ:
يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّكَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمَتَ
مِنَ اَلْمَكَانَةِ فِي اَلنِّسَبِ وَالْعَشِيرَة، وَإِنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ
قَوْمَكَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، سَفَّهَتَ بِهِ أَحْلَامَهُمْ، وَفَرَّقَتَ بِهِ
جَمَاعَتَهُمْ، وَعِفْتَ بِهِ دِينَهُمْ، وَكَفَّرْتَ بِهِ مَنْ مَضَى مِنْ
آبَائِهِمْ؟ وَإِنِّي أَعْرِضُ عَلَيْكَ أُمُورًا عَلَّكَ تَقْبَلُ بَعْضَهَا.
فَقَالَ اَلنَّبِيُّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قُلْ يَا أَبَا اَلْوَلِيدِ أَسْمَعُك، وَبَعْدَمَا وَعَدَهُ بِالْمَالِ
وَالْجَاهِ وَالْمَنْصِبِ وَالسِّيَادَة، عَلَى أَنْ يَتْرُكَ هَذَا اَلدِّينِ،
كَمَا هُوَ حَالُ قَوْمِنَا فِي هَذِهِ اَلْأَيَّامِ، يَتْرُكُ بَعْضُهُمْ دِينَه،
ويبيعُ قضيَتَهُ، ويتاجِرُ بدماءِ إخوانِه - لِمَنْصِبٍ وَرِئَاسَةٍ وَسِيَادَة.
فَقالَ لَهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: أَوَ قَدْ فَرَغْتَ يَا أَبا الوَليد؟ عَرَضْتَ مَا عندَك؟ قالَ نَعَمَ،
قالَ فاسْمَعْ مِني.
فاسْتَلْقَى عُتْبَةُ عَلى يَديه، وَأَنْصَطَ بِكَيانِهِ
كُلِّهِ لِرَسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم. وَلَمْ يَزِدِ النبيُّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسلمَ عَنْ قِراءَةِ القُرآن، استَفْتَحَ سُورَةَ فُصِّلتْ، ﴿حمۤ
تَنزِیلࣱ مِّنَ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِیمِ كِتَٰبࣱ فُصِّلَتۡ ءَایَٰتُهُۥ
قُرۡءَانًا عَرَبِیࣰّا لِّقَوۡمࣲ یَعۡلَمُونَ بَشِیرࣰا وَنَذِیرࣰا فَأَعۡرَضَ
أَكۡثَرُهُمۡ فَهُمۡ لَا یَسۡمَعُونَ ﴾ حَتَّى وَصَلَ لآيةِ السَّجْدَة،
﴿وَمِنۡ ءَایَٰتِهِ ٱلَّیۡلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمۡسُ
وَٱلۡقَمَرُۚ لَا تَسۡجُدُوا۟ لِلشَّمۡسِ وَلَا لِلۡقَمَرِ واسجدوا للهِ ٱلَّذِی
خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمۡ إِیَّاهُ تَعۡبُدُونَ فَإِنِ ٱسۡتَكۡبَرُوا۟ فَٱلَّذِینَ
عِندَ رَبِّكَ یُسَبِّحُونَ لَهُۥ بِٱلَّیۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَهُمۡ لَا یَسۡءَمُونَ
۩ ﴾
ثمَّ سَجَدَ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ، ورَفَعَ رأْسَهُ
والتفَتَ لِعُتْبَةَ بنِ رَبيعة، وقالَ ها أنتَ قدْ سَمِعْتَني يا أبا الوليد.
فَتَرَكَهُ وَذَهَبَ إلى قَوْمِهِ الذينَ يَنْتَظِرونَه،
وَهُوَ السَّيِّدُ في قَوْمِه.
فلمَّا رأوْه قالوا نُقْسِمُ باللهِ لَقَدْ جاءَنا أبو
الوليدِ بغيرِ الوَجْهِ الذي ذَهَبَ بِهِ إلى مُحَمَّد.
ثمّ قالوا وما وراءَكَ يا أبا الوليد؟ قالَ يا قومِ
أطيعوني، واجعلوها بي، واللهِ لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ مُحمدٍ كلامًا مَا هُوَ بشعرٍ
ولا بِسحر.
وواللهِ لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِهِ الذي سَمِعْتُ منهُ شَأْنٌ
عَظيم.
يا قومِ دَعُو الرَّجُلَ وَمَا هُوَ فيه - فإنْ تَظْهَرَ عليهِ العرب، فَقَدْ كُفيتُم بِغيركِمُ، وإنْ يَظْهَرَ عَلى
العَرَبِ فَمُلْكُهُ مُلْكُكُم، وَعِزُّهُ عِزُّكُم.
قالوا سَحَرَكَ واللهِ مُحَمَّد !!
وانظروا إلى حالِ أمَّتِنا والقرآن. نقرأُهُ ولا يُجاوِزُ
تراقينا.
إنَّه القرآنُ الذي لولاهُ ما كانَ للعَرَبِ وَلَا
للمسلمينَ شَأْنٌ يُذْكَرُ بينَ الأُمم، فلمَّا اتخذناهُ مَهْجورا، ضاعَ شأنُنَا،
وَصِرْنا أَتْباعًا للأممِ سخيفِها وحقيرِها.
نَسْأَلُ اللهَ عزَّ وَجَلَّ أنْ يُعيدَ الأمَّةَ لِرُشْدِها
وَصَلاحِها، وأنْ يُوَفِّقَها للعملِ بالقرآن، وَتَدَبُّرِ آياتِه، إنَّهُ وليُّ
ذلكَ والقادرُ عليه.
هذا واعلموا عباد الله أن الله قد أمركم بأمر عظيم بدأ
به بنفسه وثنى بملائكة قدسه، وثلث بكم فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ
يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ
وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
لبيك اللهم صلّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آل محمد، كما صليت وسلمت
وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الصحابة والتابعين وتابعيهم
بإحسان إلى يوم الدين
اللهم أعزّ الإسلامَ والمسلمين وأذل
الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين
اللهم ارفع ما حل بإخواننا في فلسطين، اللهم انصر المجاهدين، وارحم
المستضعفين
اللهم أعنهم ولا تعن عليهم، ومكن لهم ولا تمكن منهم، وانصرهم ولا تنصر
عليهم
اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين خيرا فوفقه إلى كل خير
ومن أراد بالإسلام والمسلمين شرًا فخذه أخذ عزيز مقتدر
اللهم عليك باليهود ومن والهم / اللهم عليك باليهود ومن ناصرهم
اللهم لا ترفع لهم راية / ولا تحقق لهم غاية / واجعلهم عبرة وآية.
اللهم ملك البلاد أره الحق حقًا وارزقه إتباعه / وأره الباطل باطلًا وارزقه
اجتنابه
وهيئ له البطانة الصالحة، إن نسي ذكروه، وإن ذكر أعانوه.
أيها الإخوة: أُسوةً برسول الله صلى الله عليه وسلم، نصلي صلاةَ الاستسقاء
بعدَ صلاةِ الجُمُعة، وصلاةِ الغائب على شهداءِ فلسطينَ ومن هم تحتَ الأنقاض.
يتبعها خطبةٌ قصيرةٌ بإذنِ الله، فاسْتَنّوا بسنةِ نبيكم صلى الله عليه وسلم، عسى
ربُّنا أنْ يُمْطِرَنا.
وأنت يا أخي أقم الصلاة.
تعليقات
إرسال تعليق