بسم
الله الرحمن الرحيم
(حسابات
الأولين)
الحمد لله الذي خلق فسوى وقدر فهدى،
الحمد لله الذي أمات وأحيا وأضحك وأبكى، له الحمد سبحانه بما خلقنا ورزقنا وهدانا
وعلمنا
كفانا فخرا أن تكون لنا ربا، وكفانا عزا أن
نكون لك عبيدا
ومما زادني شرفًا وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
سبحانك سبحانك
ما في الوجود سواك ربُّ يعبد كلا ولا مولىً هناك فيحمدُ
رباه إنّ السيل قد بلغ الزُّبا والأمر عندك بين الكاف والنون
يا من أحال النار حول خليله روحًا وريحانًا بقولك كوني
يا من أمرت الحوت يلفظ يونسًا وسترته بشجيرة اليقطين
رباه إنا مثله في شدة فارحم عبادًا كلهم ذو النون
وأصلي
وأسلم وأبارك على سيدي وحبيبي ونبيي محمد صلوات الله وسلامه عليه، هذا النبي الذي
طلع في أفق الوجود بدره، وسطعت به شمسه، صنّع الرّجال وخرّج الأبطال وكان قدوة
الناس في الميدان، فبأبي وأمي وروحي أنت يا رسول الله.
عباد
الله:
أوصيكم
ونفسيَ المقصرةَ بتقوى الله، لقوله جلّ وعلا:
﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ
إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ
لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾.
أمَّا
بَعد:
يقولُ
النبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ في الحديثِ الذي يرويهِ أبو هُريرة:
"الدُّنيا
مَلْعُونَةٌ ، مَلْعُونٌ مَا فيها، إلَّا ذِكْرَ اللهِ وَمَا وَالاه، وَعالِمًا أوْ
مُتَعَلِّمًا".
وَضَرَبَ
اَللَّهُ جَلَّ فِي عُلَاهُ فِي كِتَابِهِ لِلدُّنْيَا أَمْثَالاً يُقَبِّحُهَا،
وَيُزَهِّدُ فِيهَا. وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ اَلدُّنْيَا، وَلَا يَحْرِصُ
عَلَيْهَا إِلَّا كَمَا قَالَ اِبْنُ اَلْقَيِّمِ رَحِمَهُ اَللَّهُ فَإِنَّهَا
وَادِي اَلْحَمْقَا، وَأَمَانُ الجَاهِلِينَ.
اَلدُّنْيَا
لَوْ كَانَتْ تَعْدِلُ عِنْدَ اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى
مِنْهَا كَافِرًا شَرْبَةَ مَاء.
اَلدُّنْيَا
أَهْوَنُ عَلَى اَللَّهِ مِنْ جِدْيٍ أَسَكٍّ مَيِّتٍ عَلَى أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. زَهِدُوا بِه. وَأَبَوْ أَنْ يَشْتَرُوهُ؟
هَذِهِ
اَلدُّنْيَا اَلَّتِي يَعِيشُ اَلنَّاسُ فِي فَلَكِهَا، وَيَدُورُ اَلنَّاسُ
حَوْلَهَا. وَجَعَلُوا مَقَايِيسَهُمْ كُلَّهَا وَمَرَدَّهَا إِلَى اَلدُّنْيَا.
نَحْنُ
بِحَاجَةِ الْيَوْمَ إِلَى مُرَاجَعَةِ مَقَايِيس.
وَهَذِهِ
اَلْمَقَايِيسُ إِنِ اِسْتَقَامَتْ لِلْعَبْد، كَانَتْ سَبَبًا ظَاهِرًا فِي
نَجَاتِهِ، وَصَلَاحِ حَالِهِ. وَأَمَّا إِذَا بَقِيَ مِقْيَاسُهُ يَدُورُ فِي
فَلَكِ اَلدُّنْيَا، فَسَتَأْخُذُهُ إِلَى هَلَاكِهِ وَعَطَبِهِ.
وَتَأَمَّلُوا
مَقَايِيسَنَا فِي الدُّنْيَا، لَوْ أَنَّ أَحَدَنَا تَذَكَّرَ الْمَوْتَ،
وَأَرَادَ الِاعْتِبَارَ مِنَ الْمَوْتِ، فَإِنَّهُ لَا يَحْزَنُ وَلَا يَخَافُ
إِلَّا عَلَى فِرَاقِ زَوْجَةٍ وَوَلَد.
أَوْ
إِنَّهُ يَفْزَعُ لِفِرَاقِ مَالٍ وَدُنْيَا، فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ
مَقاييسُ السَّلَفِ عَلَيْهِمْ رَحَمَاتُ رَبِّي مُخْتَلِفَةً.
يَقُولُ
قَتَادَةُ رَحِمَهُ اللَّهُ دَخَلْتُ عَلَى عَامِرِ بْنِ عَبْدِ قَيْس. وَهُوَ
يَجُودُ فِي نَفْسِهِ وَيَحْتَضِرُ، وَإِذَا بِهِ يَبْكِي بُكَاءً شَدِيدًا.
قُلْتُ
يَا عَامِرُ مَا الَّذِي يُبْكِيكَ؟ قَالَ وَاللَّهِ مَا أَبْكِي عَلَى
دُنْيَاكُمْ. إِنَّمَا أَبْكِي عَلَى فِرَاقِ ظَمَأِ الْهَوَاجِرِ، وَلَيَالِي
الشِّتَاءِ، إِنَّمَا جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ سَيُفَارِقُ طَاعَةَ
اللَّهِ.
وَانظُرُوا
إِلَى مَقَايِيسِنَا كَيفَ تَختَلِفُ؟ لَو أَنَّ أَحَدَنَا الآنَ سَمِعَ وَاعِظًا
يُذَكِّرُهُ بِالمَوتِ، فَأَوَّلُ مَا يَهجُمُ عَلَيهِ: وَالمَرأَةُ لِمَن
تَذهَبُ؟ وَهَل يَتَزَوَّجُهَا رَجُلٌ مِنْ بَعدِي؟ وَالأَولَادُ مَن يُعِينُهُم؟
وَالمَالُ الَّذِي جَمَعتُهُ، وَالدُّنيَا الَّتِي حَرَصْتُ عَلَيهَا لِمَن
تَذهَبُ، وَسَأَترُكُ هَذَا النَّعِيمَ كُلَّهُ، فَيَمتَلِؤُ قَلبُهُ حُزنًا،
وَلَكِنَّهُ لَيسَ بِالمِقيَاسِ الصَّحِيحِ.
أَبُو
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، فِي وَقْتِ احْتِضَارِهِ يَبْكِي
بُكَاءًا شَدِيدًا، يَدْخُلُ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ وَأَهْلُهُ، قَالُوا يَا أَبَا
هُرَيْرَةَ، يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. يَا
حِبَّ الْمُؤْمِنِينَ، مَا الَّذِي يُبْكِيكَ؟ قَالَ وَاللَّهِ مَا أَبْكِي عَلَى
أَلَمِ الْمَوْتِ وَلَا فِرَاقِ الدُّنْيَا، إِنَّمَا حَالِي مَا تَنظُرُونَ،
فَإِنِّي فِي صَعُودٍ، وَلَا أَدْرِي مَهْبِطَهُ إِلَى جَنَّةٍ أَمْ إِلَى نَارٍ؟
وَلَا أَدْرِي أَيْنَ يُسْلَكُ بِي - وَهُوَ أَبُو هُرَيْرَةَ.
سَلْمَانُ
الْفَارِسِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ عَنْهُ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: سَلْمَانُ مِنَّا آلَ الْبَيْتِ، انْظُرُوا إِلَى
الْمَقَايِيسِ، قِيلَ يَا سَلْمَانُ وَمَا يُبْكِيكَ؟
وَهُوَ
الْبَاحِثُ عَنِ الْحَقِّ وَالْحَقِيقَةِ، قَلَّبَ الْأَدْيَانَ وَالْبِلَادَ
وَالْأَشْخَاصَ وَالرُّهَبَانَ، وَالْكُهَّانَ، حَتَّى أَتَى مُحَمَّدًا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَثْرِبَ. فَرَأَى عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ عَلَى
نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَآمَنَ وَاسْتَسْلَمَ وَأَسْلَمَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، قِيلَ لَهُ مَا الَّذِي يُبْكِيكَ؟
قَالَ
وَاللَّهِ مَا أَبْكِي عَلَى مَالٍ وَلَا وَلَدٍ، إِنَّمَا زَادِي قَلِيلٌ،
وَسَفَرِي بَعِيدٌ. وَلَا أَدْرِي إِذَا قَابَلْتُ اللَّهَ مَاذَا أَكُونُ؟.
اخْتَلَفَتِ
الْمَقَايِيسُ. حَيَاتُنَا الْيَوْمَ تَدُورُ فِي فَلَكِ الدُّنْيَا، تَعَلُّقٌ بِالدُّنيا
وَقَلَّ مَنْ يَتَنَبَّهُ إِلَى ذَلِكَ.
يَقُولُ
عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِأَوْلَادِهِ: أَمَا مِنْ رَجُلٍ عَاقِلٍ، يَجِدُ عَقْلَهُ
فِي نَزْعِهِ، فَيَصِفُ لَنَا مَا يَجِدُ مِنَ الْمَوْتِ؟
عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يُقَدَّمُ إِلَيْهِ طَعَامُ صِيَامِهِ حَتَّى يُفْطِرَ
عَلَيْهِ، وَإِذَا بِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَبْكِي بُكَاءً شَدِيدًا
فَيَدْفَعُ الطَّعَامَ بِيَدِهِ وَلَا يَأْكُلُ، فَلَمَّا كَلَّمُوهُ قَالَ: قَضَى
حَمْزَةُ فِي أُحُدٍ، وَقَضَى صُهَيْبٌ، وَقَضَى مَنْ قَضَى مِنْ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا نَحْنُ فَقَدْ
مَكَثْنَا فِي الدُّنْيَا وَفُتِحَتْ عَلَيْنَا. وَجَاءَنَا مَا جَاءَنَا مِنْهَا.
فَأَخْشَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَجَّلَ لَنَا أَجْرَنَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ
الْآخِرَةِ.
مَقَايِيسٌ
تَخْتَلِفُ، وَحِسَابَاتٌ تَخْتَلِفُ. كُلُّ مَقَايِيسِنَا تَدُورُ حَوْلَ
الدُّنْيَا.
الْيَوْمَ
- قِيمَةُ الْإِنْسَانِ فِينَا الْمُقَدَّرُ الْمُعَظَّمُ الْمُوَجَّبُ مَنْ؟
إِمَّا لِسُلْطَانٍ وَإمّا لِجَاهٍ وَإمّا لِمَنْصِب، وَلَعَلَّهُ لَا يُسَاوِي
شَيْئًا فِي مَقَايِيسِ الرِّجَالِ.
يَدْخُلُ
سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَلَى سُلَيْمَانِ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ. كَانَ سَالِمٌ قَدْ لَبِسَ ثِيَابًا رَثَّةً، فَلَمَّا دَخَلَ قَامَ
سُلَيْمَانُ مِنْ عَلَى سَرِيرِهِ وَمَشَى إِلَيْهِ عِنْدَ الْبَابِ وَظَلَّ
يَسْتَقْبِلُهُ وَيُرَحِّبُ بِهِ، وَيُهَنِّئُ نَفْسَهُ بِحُضُورِهِ حَتَّى
أَجْلَسَهُ عَلَى سَرِيرِهِ، سَرِيرِ الْمَلِكِ وَالْخِلَافَة، وَكَانَ عُمَرُ
بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ جَالِسًا وَبِجَانِبِهِ رَجُل، فَقَالَ ذَاكَ الرَّجُلُ
لِعُمَرَ، أُنْظُرْ لِخَالِكَ، أَمَا وَجَدَ ثِيَابًا أَحْسَنَ مِنْ هَذِهِ
يَدْخُلُ بِهَا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ عُمَرُ انْظُرْ إِلَى
ثِيَابِهِ أَيْنَ أَجْلَسَتْهُ؟ وَانْظُرْ إِلَى ثِيَابِكَ، أَيْنَ أَجْلَسْتَك؟
وَهَذَا
شَابٌّ مِنَ الْيَمَنِ كَانَ بَارًّا بِأُمِّهِ آمَنَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ
الْيَمَنِ حَتَّى يَأْتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالْمَدِينَةِ. يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ:
أُوَيْسُ الْقَرَنِيُّ خَيْرُ التَّابِعِينَ.
وَأَوْصَى
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَحَابَتَهُ إِذَا جَاءَكُمْ
أُوَيْسٌ مِنَ الْيَمَنِ، التَّابِعِيُّ الَّذِي لَمْ يُدْرِكِ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ
مَسْعُودٍ: قَالَ انْظُرُوا هَذَا الشَّابَّ وَالْتَمِسُوهُ، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُ
فَسَلُوهُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ الْمَغْفِرَةَ لَكُمْ.
وَلَمَّا
جَاءَتِ الْوَفُودُ مِنَ الْيَمَنِ. جَاءَ عُمَرُ لِيَسْأَلَهَمْ. قَالَ أَفِيكُمْ
أُوَيْسُ الْقَرَنِيُّ.
قَالُوا
نَعَمَ. مَا لَكَ وَلَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا هُوَ سَائِقٌ
يَسُوقُ دَوَابَّنَا، وَيَأْخُذُ بِخُيُوطِ خُيُولِنَا، قَالَ دُلُّونِي عَلَيْهِ.
فَلَمَّا
جَاءَهُ قَالَ وَمَا حَبَسَكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ؟ قَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كَانَتْ لِي أُمِّي وَلَا تَقْضِي
إِلَّا بِي. أَيْ تَحْتَاجُنِي، فَمَنَعَنِي ذَلِكَ بَرِّي بِأُمِّي. فَأَمْسَكَهُ
عُمَرُ مِنْ مَنْكِبَيْهِ وَقَالَ: يَا أُوَيْس: سَلِ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ
لِعُمَر.
وَالْمُقَارِنُ
بَيْنَ حَالِنَا وَحَالِهِمْ يَرَى أَنَّ مَقَايِيسَنَا اخْتَلَفَتْ، وَأَنَّ
مَقَايِيسَنَا اضْطَرَبَتْ.
فَيَا
مَنْ يَرْكُضُ وَرَاءَ الدُّنْيَا، لَنْ تَنَالَ إِلَّا مَا كُتِبَ لَكَ، وَلَنْ
تَأْخُذَ إِلَّا مَا قُدِّرَ لَكَ فَلَا تُشْغِلَنَّكَ الدُّنْيَا عَنْ طَاعَةِ
اللَّهِ.
جُلِيبِيبٌ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، كَانَ رَجُلًا
فَقِيرًا دَمِيمًا، مَدْفُوعًا مِنَ الْأَبْوَابِ، لَا يُذْكَرُ بِنَسَبٍ.
جَاءَتْ
غَزْوَةٌ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَرَجَ مَعَهُ
جُلِيبِيب، قَامَتِ الْغَزْوَةُ وَانْتَهَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: انْظُرُوا هَلْ تَفْقِدُونَ أَحَدًا؟ فَلَمَّا
ذَكَرَ الرِّجَالُ مَنْ يَفْقِدُونَ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَمَا إِنِّي لَأَفْقِدُ جُلِيبِيبًا. وَانْطَلَقَ الصَّحَابَةُ
يَبْحَثُونَ عَنْهُ، فَلَمَّا وَجَدُوهُ مَشَى لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذ بِهِ صَرِيعًا وَحَوْلَهُ سَبْعَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
قَدْ قَتَلَهُمْ.
فَأَمْسَكَ
بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ لَهُ: يَا جُلِيبِيبُ
قَتَلْتَهُمْ وَقَتَلُوكَ!!
يَا
جُلِيبِيبُ أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ.
ثُمَّ
جَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهِ،
وَقَامَ الصَّحَابَةُ يَحْفِرُونَ لَهُ قَبْرًا، فَأَرَادُوا أَنْ يَحْمِلُوهُ
إِلَى قَبْرِهِ فَأَبَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَدَّ
يَدَيْهِ تَحْتَ جَسَدِ جُلِيبِيبٍ وَحَمَلَهُ بِيَدَيْهِ الشَّرِيفَتَيْنِ، ثُمَّ
مَشَى بِهِ إِلَى قَبْرِهِ. يَقُولُ أَنَسٌ: وَنَحْنُ نَنْظُرُ إِلَى جُلِيبِيبٍ
تَمَنَّيْنَا لَوْ كُنَّا مَكَانَهُ.
مَقَايِيسُ
الْقَوْمِ لَيْسَتْ كَمَقَايِيسِنَا الْيَوْمَ، دُنْيَا وَمَالٍ وَنِسَاءٍ
وَمُنْكَرَاتٍ، انْظُرُوا إِلَى الدُّنْيَا وَكَمْ أَخَذَتْ مِنَّا وَمِنْ
أَعْمَارِنَا وَأَوْقَاتِنَا. فَيَا مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ بِخَيْرٍ وَقَدْ
فُتِحَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا، انْظُرْ إِلَى حَالِ الدُّنْيَا كَمْ أَقْلَقَتْ
قُلُوبَ الصَّالِحِينَ لَمَّا فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ. حَتَّى كَانُوا يَخْشَوْنَ
أَنْ يَفْقِدُوا لَذَّةَ أُنْسِهِمْ بِاللَّهِ.
نَسْأَلُ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُخْرِجَ حُبَّ الدُّنْيَا مِنْ قُلُوبِنَا، وَأَنْ
يَرُدَّنَا إِلَيْهِ رَدًّا جَمِيلًا.
أَقولُ
قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ، فَيَا فَوْزَ
المُسْتَغْفِرينَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ.
الخطبة
الثانية:
الحمد
لله وكفى، وسلام على نبيه الذي اصطفى.
عباد
الله:
يَدُورُ
الزَّمانُ دَوْرَتَهُ، فَبَعْدَمَا كانَ للمُسلمينَ الْمَجْدُ والسُّؤْدُد،
والغلبةُ والتَّمكين. والعِزُّ والرَّفاهِية، أصبَحَ لِمِلَلِ الْكُفْرِ اليومَ
الغلبةُ والتَّمكين، أصبَحَوا مُتَقَلِّبينَ في البلاد، وَمُتَسَلِّطينَ
وَمُتَجَبِّرينَ على العباد، وأصبحتْ لَهُمُ القُوَّةُ والغلبةُ والهيمنة. وأصبحَ
المسلمونَ عبيدًا لهم وأذنابا، يأتمرونَ بأمرِهِم وينتهون بنهيهم. ويتحكمونَ فيهم
كيفما شاءوا .
وَهُنَا
يَأتي السؤالُ نَفْسُهُ الذي سَأَلَهُ الصحابَةُ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم،
فما أشبَهَ اليومَ بالبارِحة، فيقولُ قائِلُنَا (هؤلاءِ كفارُ اليومِ في رخاءٍ
ولينٍ مِنَ العيش. وَقَدْ هَلَكَ كثيرٌ مِنَ المسلمين مِنَ الْجُوعِ وَمِنَ الفقرِ
وَمِنَ الاضطهادِ والظُلم.
هذه
العبارِةُ وَغَيْرُها كثيرًا ما نَسْمَعُها وَيُرَدِّدُها اليائس.
أو يُرَدِّدُها الجاهِلُ المفتون، أوْ
الْمُنافِقُ الْمُخادِع، ولا نَجِدُ لهؤلاءِ إلّا ردًّا واحدًا
"لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ
وَبِئْسَ الْمِهَاد"
حينما
يَتَسَلَّلُ الإحباطُ واليأسُ إلى نفسِ الْمُؤْمِنِ، وهو يَرى ما عليهِ الكُفّارُ
اليومَ مِنَ التمكينِ في الأرض، وما يملكونَهُ مِنَ القُوَّةِ والْهَيْمَنَة،
وعندما يَرى جيوشَهُم، وَعَدَدَهُم، وَعَتادَهُم، ويَرى صناعاتِهم. ينتابُهُ شعورٌ
بالنَّقْصِ إزاءَ مَا حَقَّقَهُ القومُ مِنْ تَقَدُّمٍ في عالَمِ المدنية،
وَيُصْبِحُ مُتأرجِحَ التَّفكيرِ في حاضرٍ ظاهرٍ جَلِيٍّ للعيان. يُجَسِّدُ ضَعْفَ
أُمَّةِ الإسلامِ وَهَوانَها بينَ الأُمم.
تأتي
هذهِ الآيةُ الحَكيمةُ لتشفِيَ صدورَ قومٍ مؤمنين، تُعيدُ إلى نفسِ المؤمنِ
التوازن، وَتُشْعِرُهُ بالعزّة، وَتَضَعُ الأمورَ في نِصابها، في بيانِ حقيقةِ
ومصيرِ أولئكَ القومِ ومآلِهِمُ الذي سيصيروَن إليه؛ فتتحققُ لَهُ الطُمأنينةُ
وَيَسْتَشْعِرُ عِزَّةَ الإسلامِ ونِعمةَ الإيمانِ التي امتنَّ اللهُ بها عليهِ
يومَ أن جَعَلَهُ مُؤمناً باللهِ موحداً له.
إنَّ مِلَلَ الكُفرِ مهما بَلَغَتْ
ومهما مَلَكَتْ مِنَ الدُّنيا فإنَّهُ (مَتَاعٌ قَلِيلٌ) إذا ما قُورن بنعيمِ
الآخرة، (ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ).
والسؤالُ الذي نَسْمَعُهُ كثيرًا:
أليسَ اللهُ قادرًا على تدميرِ أهلِ الكُفْرِ والفَساد؟
وأنْ يَمْنَعَهُم فَضْلَهُ،
وَيُذيقَهُم سوءَ العذاب؟
أليسَ الكُفّارُ بَلَغوا مِنَ
الظُّلْمِ والبَغْيِ والعُدْوانِ والتَّكَبُّرِ ما بلغوا؟
فَلِمَ لا يُحاسِبُهُمُ اللهُ ببغيِهِم
وَظُلْمِهِم وَفَسادِهِم؟ واللهُ عادلٌ لا يُحِبُّ الفَساد؟
فيأتيهِمُ الجوابُ بأنَّ اللهَ قادرٌ
ولكنَّنا نَجْهَلُ سُنَنَ اللهِ الرَّبانيّة.
ومِنْ هذهِ السُّنَن سُنَّةُ الإملاءِ
والاستدراج.
يقولُ
النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ
الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ"
ثُمَّ
تَلَا صلوات الله وسلامُهُ عليه قولَ اللهِ تباركَ وتعالى: "فَلَمَّا نَسُوا
مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا
فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ".
آيسون من كل خير.
"وَلَوْ
تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا
أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ"،
أبصرنا يومَ القيامة وسمعنا بهِ ورأيناه، فارجعنا نعمل صالحًا إنا موقنون.
"وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَٰكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ
مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ -
فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ ۖ
وَذُوقُوا
عَذَابَ
الْخُلْدِ
بِمَا
كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ"
بما
كُنتم تعملونَ الأعمالَ الإجرامية، والمعاصي المتتابعة، حينها لو أنّ نَفْسَ
الكافِرِ مَلَكتِ الأرضَ وما فيها لقدَّمَتْ ذلك فِداءً عَنْ نَفْسِها، واللهُ
تعالى لَنْ يقبلَ حينَها مِنْ أَحد، مِمَّنْ كَفَرَ بالله، وَتَمَرَّدَ في الأرض،
وأخذَ يتفننُ في قتلِ المسلمينَ بشتى أنواعِ الأسلحةِ والسُّبُل.
"وَلَوْ
أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ ۗ
وَأَسَرُّوا
النَّدَامَةَ
لَمَّا
رَأَوُا
الْعَذَابَ"
لكنَّ
النَّدامَةَ
في
هذا
الموقِفِ
لا
تَنْفَع.
وفي مَوْضِعٍ آخرَ يقولُ ربُّنا جلَّ
وعَلا: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ
مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَىٰ بِهِ ۗ"
بلْ والأعظمُ مِنْ ذَلكَ يَتَمَنّى
مِنْ قَلْبِهِ أنْ يَفتدي مِنْ العذابِ بِأَوْلادِهِ وزوجتِهِ وإخوانِهِ
وعشيرَتِهِ وبالنَّاسِ جميعا "يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ
عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ – وصاحبته وأخيه – وفصيلته التي تؤويه – ومن في الأرض
جميعًا ثم ينجيه"
واللهُ
عزَّ وَجَل لا يَقْبَلُ مِنْ أحَدٍ فِداءً في ذلكَ اليوم، مِمَّن بارَزَ اللهَ بالمعاصي،
وآذى اللهَ وآذى رَسولَهُ، وآذى المؤمنين، لَنْ يقبلَ اللهُ عزَّ وَجَلَّ الفداء،
وتخيل موقِفَ الكافرينَ حينها، وقد جاءَتْ ملائكةُ النارِ تَجُرُّهُم بالسلاسل،
وَهُم يُسْحَبونَ إلى العذاب.
"وَسِيقَ
الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا ۖ
حَتَّىٰ
إِذَا
جَاءُوهَا
فُتِحَتْ
أَبْوَابُهَا
وَقَالَ
لَهُمْ
خَزَنَتُهَا
أَلَمْ
يَأْتِكُمْ
رُسُلٌ
مِّنكُمْ
يَتْلُونَ
عَلَيْكُمْ
آيَاتِ
رَبِّكُمْ
وَيُنذِرُونَكُمْ
لِقَاءَ
يَوْمِكُمْ
هَٰذَا
ۚ
قَالُوا
بَلَىٰ
وَلَٰكِنْ
حَقَّتْ
كَلِمَةُ
الْعَذَابِ
عَلَى
الْكَافِرِينَ
- قِيلَ
ادْخُلُوا
أَبْوَابَ
جَهَنَّمَ
خَالِدِينَ
فِيهَا
ۖ
فَبِئْسَ
مَثْوَى
الْمُتَكَبِّرِينَ"
هذا
واعلموا عباد الله أن الله قد أمركم بأمر عظيم بدأ به بنفسه وثنى بملائكة قدسه، وثلث
بكم فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
لبيك
اللهم صلّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آل محمد، كما صليت وسلمت وباركت على
إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض
اللهم عن الصحابة والتابعين
وتابعيهم
بإحسان إلى يوم الدين
اللهم
انصر الإسلام والمسلمين
وأذل
الشرك والمشركين
ودمر
أعداء الدين
اللهم
ارفع ما حل بإخواننا في فلسطين، اللهم انصر المجاهدين، وارحم المستضعفين
اللهم
أعنهم ولا تعن عليهم، ومكن لهم ولا تمكن منهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم
اللهم
من أراد بالإسلام والمسلمين خيرا فوفقه إلى كل خير
ومن
أراد بالإسلام والمسلمين شرًا فخذه أخذ عزيز مقتدر
اللهم
عليك بالصهاينة ومن والهم / اللهم عليك بالصهاينة ومن ناصرهم
اللهم
لا ترفع لهم راية / ولا تحقق لهم غاية / واجعلهم عبرة وآية.
اللهم
ملك البلاد أره الحق حقًا وارزقه إتباعه / وأره الباطل باطلًا وارزقه اجتنابه
وهيئ
له البطانة الصالحة، إن نسي ذكروه، وإن ذكر أعانوه. وأنت
يا أخي أقم الصلاة.
تعليقات
إرسال تعليق