بسم الله الرحمن الرحيم
عنوان
خطبة الجمعة الموحد
(إذا مات ابنُ
آدمَ انقطع عملُه إلا من ثلاثٍ...) (ملزم)
15رجب 1445هـ الموافق 26/1/2024م
إن الحمدَ لله، نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونستهديه،
ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا، ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلَّ
له، ومن يضللْ فلا هاديَ لهُ،
يا ربِّ حمداً ليسَ غَيْرُكَ يُحْمَدُ ** يا من لَهُ كُلُّ الخَلائِقِ تَصْمُدُ
أبوابُ غيرِكَ ربنا قد
أوُصدت ** ورأيتُ بابَكَ واسعاً لا يُوصَدُ
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن
محمدًا عبدُه ورسولُ، وصفيه وخليله بلّغ الرسالة , وأدى الأمانة , ونصح الأمة ,
وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ
لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾.
عباد الله: لا يخفى على حضراتكم أنّ
الدنيا دار عمل. فإذا مات
الإنسان توقف عمله وانقطع. وأنّ الدار الآخرة هي دار الجزاء. فعلى المسلم أن يستعدّ لها
بالأعمال الصالحة.
فاليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل.
قال صلى الله عليه وسلم: (الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِما بَعْدَ الْموْتِ،
وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَه هَواهَا، وتمَنَّى عَلَى اللَّهِ الأماني).
فعلى المؤمن أن يجتهد في الاعمال الصالحة في دنياه قبل
أن يأتي يوم لا ينفع فيه عمل ولا ندم. يقول تعالى: ﴿حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ
أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا
تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم
بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾.
·
لذا وُجهت خطبة اليوم إلى من يخشى ربه ويخاف سوء الحساب.
·
إلى من يدرك يقينًا أنه آتٍ ليوم يوارى فيه تحت التُراب.
·
خطبة مفادها وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم
توجهنا إلى استثمار أحوالنا قبل الموت وإلى استمرار الأجر بعده.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ابنُ آدمَ انقطع عملُه إلا من ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنتفَعُ به،
أو ولدٌ صالحٌ يدعو له).
يشير الحديث الشريف إلى ثلاثة أصناف من الناس لم يكتفوا
بالعمل حال الحياة، بل ظلوا يعملون بعد الممات - هذا الحديث فيه الحث على المبادرة
بالأعمال الصالحة. قال الإمام النووي رحمه الله: معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع
بموته وينقطع تجدد الثواب له إلا في هذه الأشياء الثلاثة: الصدقة الجارية، والعلم
الذي خلفه، والولد الصالح الذي يدعو له.
عن أنس رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: (سبعٌ يجري
للعبدِ أجرُهنَّ وهو في قبرِه بعد موتِه : من علَّم علمًا ، أو كرى نهرًا ، أو حفر
بئرًا ، أو غرس نخلًا ، أو بنى مسجدًا ، أو ورَّثَ مصحفًا ، أو ترك ولدًا يستغفرُ
له بعد موت).
فهذه الأحاديث
تحث الناس على الإكثار من وجوه البرّ التي تدوم ويعم نفعها. وذكرت الأحاديث أمهات
هذه الأعمال التي يبقى للناس أثرها بعد وفاة الإنسان، ويستمر ثوابها لصاحبها ما
دامت هذه الاعمال. وهي:
الصدقة الجارية والتي عبّر عنها الفقهاء بكل ما يدوم
نفعه من صدقة ووقف وبناء مساجد، ومدارس، وتعليم طلبة العلم، وبناء مستشفيات، وأماكن سكن للفقراء
والأيتام، وأبناء السبيل، وحفر الآبار، وغيرها من سائر أعمال البرِّ.
إخوةِ الإيمان: إنَّ أبوابَ البرِّ كثيرة, وأعمالَ
الخيرِ متنوعة, فليضربِ المسلمُ له من كل عملٍ بسهم, فإنه لا يدري أيَّ عملٍ ينجيه
من النار ويدخلُه الجنة, فـ "لا تَحْقِرنَّ مِنَ المَعرُوفِ شَيئاً؛ وَلَوْ أنْ
تَلقَى أخَاكَ بِوَجْهٍ طَليقٍ"(
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(كُلُّ مَعْرُوفٍ
صَدَقَةٌ).
يقول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ
بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
ويقول تعالى:﴿ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِين﴾
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه
وسلم:(مَنْ تصدَّقَ بعدْلِ تمرَةٍ مِنْ كسبٍ طيِّبٍ ، ولَا يقبَلُ اللهُ إلَّا
الطيِّبَ ، فإِنَّ اللهَ يتقبَّلُها بيمينِهِ ، ثُمَّ يُرَبيها لصاحبِها ، كما
يُرَبِّي أحدُكم فَلُوَّهُ (أي صغير الخيل) حتى تكونَ مثلَ الجبَلِ) فالتمرة تصبح
بأجرها مثل الجبل.
والصدقة ما سميت صدقة إلا لأنها دليل على صدق الإيمان
بالله واليوم الآخر، فقد قرن عز وجل ذكرها مع الإيمان إذ قال: (الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنفِقُونَ)، وصاحب الصدقة تحت ظل صدقته يوم القيامة حتى يُفصل بين الناس.
وقد كان أحد الصالحين لا يأتي عليه يوم إلا تصدق فيه
بشيء ولو بكعكعة أو بصلة.
ونحن في زمن ضرب فيه الغلاء والجوع بلدانًا كثيرة، فأسر
مسلمة تفترش الأرض، وأخرى ينام صبيانها ويستيقظون على لحم بطونهم، ولا يخفى عليكم
ما يحدث في أسر غزة التي يأكل أطفالها وأناسها العشب ولا يجدون ما يسدّ جوعهم ولا
ظمأهم، في حين تنعم دولٌ أخرى بشتى أنواع النعم، بل ويسرفون في الإنفاق على
الملاهي والمحافل الصاخبة، وكأن حالهم ما قال الإمام الشافعي:
تَموتُ الأُسدُ في الغاباتِ
جوعاً وَلَحمُ الضَأنِ تَأكُلُهُ
الكِلابُ
وَعَبدٌ قَد يَنامُ عَلى
حَريرٍ وَذو نَسَبٍ
مَفارِشُهُ التُرابُ
وأما
العلم النافع: فهو العلم الذي ينتفع به الناس في حياتهم وبعد مماتهم. ليكون
هذا العلم صدقة جارية لهم بعد وفاتهم. لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من
علّم علمًا فله أجر من عمل به لا ينقص من أجر العامل"
وإنّ من أفضل العلم ومن أفضل ما يمكن تعليمه هو كتاب
الله تعالى، فيعلِّم المرءُ أولاده ومن يعول وغيرهم آياتٍ وسور من القرآن الكريم
وغيرها من شتى العلوم الشرعية، وقد تعددت وسائل نشر العلم في العصر الحديث، لما
وصلت له التقنيات الحديثة، فليحرص كل منا على إرسال ولو آية أو حديث يقصد به نية
تعليم الناس الخير، فربّ مُبَلَّغٍ أوعى من سامع.
وأما
الولد الصالح الذي قمت أيها المسلم بتربيته منذ نعومة أظفاره على
الايمان والطاعة وحب الله ورسوله والمؤمنين. فعلمته الفروض والواجبات وأمرته
بفعلها. وحذرته من الحرام والمنكرات وأمرته باجتنابها. فهذا هو الولد الصالح الذي
يكون قرة عين لوالديه في الدنيا والاخرة. ويعدُّ عمل هذا الولد استمراراً لعمل
والديه. فيثاب الأب والأم بكل عمل صالح يقوم به الولد ويكتب لهم الأجر.
وقد قيل:
وينشأ ناشئ الفتيان
فينا على ما كان عوده أبوه
ومع الأسف الشديد فإنّ المتتبع لواقع الشوارع والأسواق
والمدارس بل وبعض المساجد يرى العجب العجاب في تربية الأبناء، وكأن الأبناء يربون
أنفسهم بأنفسهم، فلا ضابط ولا رادع ولا مرب ولا ناصح.
مع أنّ من أبرز ثمرات التربية الناجحة دعاء الولد
لوالديه بعد وفاتهما وهي مبشرة بصالح هذا الولد بإذن الله تعالى. عن أبي هريرة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الرَّجلَ لتُرفَعُ درجتُه في الجنةِ
فيقولُ : أنَّى هذا ؟ فيقالُ : باستغفارِ ولدِك لكَ).
ومن فضل الله تعالى أن الله تعالى ينفع الميت بدعاء
الأحياء له واستغفارهم له ولو لم يكونوا من ذريته. ولهذا شرعت صلاة الجنازة للميت
المسلم القريب والبعيد. وشرع الدعاء لهم والترحم عليهم. يقول
تعالى:﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾.
فبادروا أيها المؤمنون بالعمل بما في هذا الحديث من حرص
على العلم النافع وتربية الاولاد على الصلاح. وإخراج الصدقات وخاصة لنصرة أهلنا في
غزة وفلسطين. فهم بأمس الحاجة اليها اليوم في ظل العدوان الصهيوني المتواصل.
يقول الله تعالى:﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ
خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ۚ
وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فيا فوز المستغفرين
استغفروا الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وسلام على نبيه الذي اصطفى
عباد الله: كما أن هناك حسنات جارية، هناك سيئات جارية
أيضًا: قال تعالى: "وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ
مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ
صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا
ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا".
إذ سيفاجئ الواحد منا بسيئات عظيمة لم يكن يعملها بنفسه
لكنها كتبت عليه، فإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يحمل وزره يوم القيامة فكيف له أن
يحمل أوزار غيره؟
ومن صور السيئات الجارية: سوء تربية الأبناء وإهمالهم
والتقصير في حقهم، وتصديرهم إلى المجتمع بأسوأ حال، والشواهد في الأسواق والشوارع
كثيرة على ذلك.
ومنها أيضًا: إفساد الناس وتزيين الباطل لهم، قال صلى
الله عليه وسلم: "مَن دَعا إلى ضَلالَةٍ، كانَ عليه مِنَ الإثْمِ مِثْلُ
آثامِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن آثامِهِمْ شيئًا".
وقد ساهمت الطفرة الهائلة في التكنولوجيا وأدواتها إلى
سرعة انتشار المواد المرئية والصوتية والنصية، فبعض الناس ينشر المعتقدات الباطلة
أو الأفكار التي تحارب الإسلام وتحارب أهله، وبعضهم ينشر ما يدعوا إلى محاربة
الفضيلة والتوجه إلى الرذيلة، وغيرها من نشر للموسيقى وللصور التي لا يحتمل الموقف
ذكرها، ولم يدرك هذا الناشر أن وزر ما نشر عائد عليه إثمه وإثم من شاهده، فلنحذر
كل الحذر أن يكون هذا التقدم التكنولوجي وبالًا وشؤمًا علينا يوم القيامة. ومن وقع
منه شيء من ذلك فليستغفر الله وليبادر بالتوبة، إنه هو التواب الرحيم.
واعلموا عباد الله أن الله قد أمركم بأمر عظيم بدأ به
بنفسه وثنى بملائكة قدسه، وثلث بكم فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ
يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ
وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
لبيك اللهم صلّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آل محمد،
كما صليت وسلمت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الصحابة والتابعين
وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين
اللهم انصر الإسلام والمسلمين
وأذل الشرك والمشركين
ودمر أعداء الدين
اللهم ارفع ما حل بإخواننا في فلسطين، اللهم انصر
المجاهدين، وارحم المستضعفين
اللهم أعنهم ولا تعن عليهم، ومكن لهم ولا تمكن منهم،
وانصرهم ولا تنصر عليهم
اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين خيرا فوفقه إلى كل خير
ومن أراد بالإسلام والمسلمين شرًا فخذه أخذ عزيز مقتدر
اللهم عليك باليهود ومن والهم / اللهم عليك باليهود ومن
ناصرهم
اللهم لا ترفع لهم راية / ولا تحقق لهم غاية / واجعلهم
عبرة وآية.
اللهم ملك البلاد أره الحق حقًا وارزقه إتباعه / وأره
الباطل باطلًا وارزقه اجتنابه
وهيئ له البطانة الصالحة، إن نسي ذكروه، وإن ذكر أعانوه.
وأنت يا أخي أقم الصلاة.
تعليقات
إرسال تعليق