بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة
الجمعة (فلا يغرنك تقلب
الذين كفروا)
إن الحمدَ لله، نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونستهديه،
ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا، ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلَّ
له، ومن يضللْ فلا هاديَ لهُ،
يا ربِّ حمداً ليسَ غَيْرُكَ يُحْمَدُ** يا من لَهُ كُلُّ
الخَلائِقِ تَصْمُدُ
أبوابُ غيرِكَربنا قد أوُصدت
** ورأيتُ بابَكَ واسعاً لا يُوصَدُ
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن
محمدًا عبدُه ورسولُ، وصفيه وخليله بلّغ الرسالة , وأدى الأمانة , ونصح الأمة ,
وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ
لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾.
أمّا بعد:
يقولُ رَبُّنا جلَّ وَعلا: "لَا يَغُرَّنَّكَ
تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ. مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ
جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ . لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ - وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ".
جاءَ في أسبابِ النُّزولِ
أنَّ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم: يا رَسولَ الله: هَؤُلاءِ
الْكُفَّارُ لَهُمْ تجارَةٌ وَأَمْوَالٌ فِي الْبِلاد, وَهُمْ في رَخاءٍ وَلينِ عَيْش،
وَقَدْ هَلَكْنَا نَحْنُ مِنْ الْجُوع ;فَأنَزَلَ اللهُ تَعالى: "لَا يَغُرَّنَّكَ
تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ - مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ
جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ".
هذهِ الآيةُ تُفَسِّرُ لنا الواقِعَ الذي نَعيشُهُ في
هذه الأيام، فإذا كُنَّا نَحْنُ أهلَ الإسلامِ على الحق، فلماذا سَلَّطَ اللهُ عَلينا
الأعداءَ؟ فَقَتلونا وَشَرَّدونا وَهَدموا بُيوتَنَا، وَنَهَبُونا وَتَحَكَّموا بِأُمورِنا؟
إذا كانَ هؤلاءِ الذينَ كَفروا باللهِ عزَّ وَجَل يَتَنَعَّمونَ
بِرَغَدِ العَيْشِ - وَلَهُمُ السيطرةُ والقُوَّةُ، وَعِنْدَهُمُ التَّقَدُّمُ
والقُوَّةُ الاقتصادِيَّةُ وَالعَسْكَرِيَّةُ والإعْلامِيَّة، وَعِنْدَهُمُ الزِّرَاعَةُ
وَالخيراتُ والأمطار، وَعِنْدَنا شِدَّةٌ وَخَرابٌ وَدمار، وَحالٌ كَئيبَةٌ كَما نَرى؟
تَشريدٌ وَتَقتيلٌ وَتهجيرٌ وَفَقْرٌ وَتَخَلُّفٌ وَهُم
فيما فيهِ مِنَ التَّقَدُّم؟
المُؤْمِنُ يَعْرِفُ أنَّ اللهَ لَهُ الحِكْمَةُ البالِغَة،
وَأَنَّهُ جَلَّ وَعَلا لا يُسألُ عَمَّا يَفْعل.
وَيَعْرِفُ أنَّ المسلمينَ إذا ابتعدوا عَنْ دينِهِم فاللهُ
يُعاقِبُهُم، وأنَّهُم إنْ أعرضوا عَنْ دينِهِ سَلَّطَ اللهُ عليهِم عَدُوَّهُم.
وَيَرى المؤمِنُ في الواقِعِ انطباقَ السُّنَنِ الإلهيةِ
علينا، ومن مثل ذلك:
"إذا تبايعتُم بالعِينةِ وأخذتم أذنابَ البقرِ ،
ورضيتُم بالزرعِ ، وتركتمُ الجهادَ ، سلَّطَ اللهُ عليكم ذُلًّا لا يَنْزِعُهُ حتى
ترجعوا إلى دِينِكم"
فإذا أَنْتُم أَخَذْتُم تحتالونَ في التعاملاتِ الرَّبَويَّة
فتبيعون سِلْعَةً بثمنٍ مُؤَجَّل، ثمّ تشترونَها بثمنٍ أَقَلْ، وانشغلتُم بِحِراثَةِ
الأَرضِ وَزراعَتِها حتى صارَتْ أُمورُ الدُّنيا أَكْبَرَ هَمِّكُم وَتَرَكْتُمُ
الجهادَ في سبيلِ الله عزَّ وَجَلْ، سَلَّطَ اللهُ عليكم ذُلًّا لا يَنْزِعُهُ حتى
ترجعوا إلى دينكم.
وهذهِ أشياءٌ نَراها في الواقِع، ونرى يوميًا نتيجةَ
تقصيرِ المسلمينَ في حَمْلِ دينِهِم لَمَّا فَرَّطوا في دينِ رَبِّهم جلَّ وَعلا.
وفي هذه الآياتِ رسالةٌ لكلِّ مُسلمٍ بِأَلّا يَغترّ بسلامَةِ
الكفارِ وتَقَلُّبِهِمْ فِي أَسْفَارهمْ وَضَرْبِهِم في الأرضِ ورخاءِ عَيْشِهِم. ولا بِكَثْرةِ أَمْوالِهِم وَرِبْحِ تِجارَتِهِم. لا تُفْتَنوا بأحوالِهِم ولا تنبهروا، فما هُمْ فيهِ فهو (مَتَاعٌ قَلِيلٌ).
متاعٌ قليلٌ بالنسبةِ لِمَتاعِ المؤمنينَ في الجنة، لا تَنْظُروا
لهذا الْمَتاعِ الزائلِ الْمُنقَطع. ولكن انظروا للمتاعِ الدائِمِ الخالِد.
فمتاعُ هؤلاءِ الكفارِ مَهْمَا بَلَغَ فَهُوَ قليل
(ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) .
فَنِهايَتُهُم إلى النَّار - وَمَصيرُهُم إلى الجحيم - فَلا
خَيْرَ في نَعيمٍ نِهَايَتُهُ إلى الجحيم .
جاءَ في صحيحِ مُسلم (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم-
يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ
الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِى النَّارِ
صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ
بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ.
وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِى الدُّنْيَا
مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِى الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ يَا
ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟
فَيَقُولُ لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِى بُؤُسٌ قَطُّ وَلاَ رَأَيْتُ
شِدَّةً قَطُّ .
لذا أَعْقَبَ اللهُ الآيةَ
بقوله تعالى: "لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا
عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ".
أيها الموحدون:
هكذا يَدُورُ الزَّمانُ دَوْرَتَهُ، فَبَعْدَمَا كانَ
للمُسلمينَ الْمَجْدُ والسُّؤْدُد، والغلبةُ والتَّمكين. والعِزُّ والرَّفاهِية،
أصبَحَ لِكُفّارِ اليومِ الغلبةُ والتَّمكين، أصبَحَ كُفّارُ اليومَ مُتَقَلِّبينَ في البلاد، وَمُتَسَلِّطينَ وَمُتَجَبِّرينَ
على العباد، وأصبحتْ لَهُمُ القُوَّةُ والغلبةُ والهيمنة. وأصبحَ المسلمونَ عبيدًا
لهم وأذنابا، يأتمرونَ بأمرِهِم وينتهون بنهيهم. ويتحكمونَ فيهم كيفما شاءوا .
وَهُنَا يَأتي السؤالُ نَفْسُهُ الذي سَأَلَهُ الصحابَةُ
لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فما أشبَهَ اليومَ بالبارِحة، فيقولُ قائِلُنَا
(هؤلاءِ كفارُ اليومِ في رخاءٍ ولينٍ مِنَ العيش. وَقَدْ هَلَكْنَا نَحْنُ
المسلمونَ مِنْ الْجُوع، هذه العبارِةُ وَغَيْرُها كثيرًا ما نَسْمَعُها وَيُرَدِّدُها
اليائس .
أو يُرَدِّدُها الجاهِلُ
المفتون، أوْ الْمُنافِقُ الْمُخادِع، ولا نَجِدُ لهؤلاءِ إلّا ردًّا واحدًا
"لَا
يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ
مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَاد"
حينما يَتَسَلَّلُ الإحباطُ واليأسُ إلى نفسِ الْمُؤْمِنِ ، وهو يَرى ما
عليهِ الكُفّارُ اليومَ من التمكينِ في الأرض، وما يملكونَهُ مِنَ القُوَّةِ والْهَيْمَنَة،
وعندما يَرى جيوشَهُم، وَعَدَدَهُم، وَعَتادَهُم، ويَرى صناعاتِهم. فينتابُهُ شعورٌ
بالنَّقْصِ إزاءَ مَا حَقَّقَهُ القومُ مِنْ تَقَدُّمٍ في عالَمِ المدنية، وَيُصْبِحُ
مُتأرجِحَ التَّفكيرِ في حاضرٍ ظاهرٍ جَلِيٍّ للعيان. يُجَسِّدُ ضَعْفَ أُمَّةِ
الإسلامِ وَهَوانِها بينَ الأُمم؛ تأتي هذهِ الآيةُ الحَكيمةُ لتشفي صدورَ قومٍ مؤمنين، تُعيدُ
إلى نفسِ المؤمنِ التوازن، وَتُشْعِرُهُ بالعزّة، وَتَضَعُ الأمورَ في نِصابها، في
بيانِ حقيقةِ ومصيرِ أولئكَ القومِ ومآلِهِمُ الذي سيصيروَن إليه؛ فتتحققُ لَهُ
الطُمأنينةُ وَيَسْتَشْعِرُ عِزَّةَ الإسلامِ ونعمةَ الإيمان التي امتنَّ اللهُ
بها عليهِ يومَ أن جَعَلَهُ مُؤمناً باللهِ موحداً له.
إنَّ الكُفّارَ مهما بلغوا ومهما مَلَكوا مِنَ الدُّنيا
فإنَّهُ (مَتَاعٌ قَلِيلٌ) إذا ما قُورن بنعيمِ الآخرة، (ثُمَّ مَأْوَاهُمْ
جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ).
والسؤالُ الذي نَسْمَعُهُ كثيرًا: أليسَ اللهُ قادرًا
على تدميرِ أهلِ الكُفْرِ والفَساد؟ أليس اللهُ قادرًا على أنْ يَمْنَعَهُم فَضْلَهُ،
وَيُذيقَهُم سوءَ العذاب؟
أليسَ هؤلاءِ الكُفّارُ بَلَغوا مِنَ الظُّلْمِ والبَغْيِ
والعُدْوانِ والتَّكَبُّرِ ما بلغوا؟
فَلِمَ لا يُحاسِبُهُمُ اللهُ
ببغيِهِم وَظُلْمِهِم وَفَسادِهِم؟ واللهُ عادلٌ لا يُحِبُّ الفَساد؟
فيأتيهِمُ الجوابُ بأنَّ
اللهَ قادرٌ ولكنَّنا نَجْهَلُ سُنَنَ اللهِ الرَّبانيّة، فللهِ سُنَنٌ إلهيةٌ لا تتغيرُ
ولا تتبدل.
ومِنْ هذهِ السُّنَن سُنَّةُ الإملاءِ والاستدراج.
يقولُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا رَأَيْتَ
اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ
فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ"
ثُمَّ تَلَا صلوات الله وسلامُهُ عليه قولَ اللهِ تباركَ
وتعالى: "فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ
كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا
هُمْ مُبْلِسُونَ"
آيسون
من كل خير.
"وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو
رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا
نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ"، أبصرنا يومَ القيامة وسمعنا بهِ
ورأيناه، فارجعنا نعمل صالحًا إنا موقنون. "وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ
نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَٰكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ
الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ - فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ
يَوْمِكُمْ هَٰذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ ۖ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا
كُنتُمْ تَعْمَلُونَ"
بما كُنتم تعملونَ الأعمالَ الإجرامية، والمعاصي
المتتابعة، ستذوقون أليمَ العذابِ، حينها لو أنّ نَفْسَ الكافِرِ مَلَكتِ الأرضَ
وما فيها لقدَّمَتْ ذلك فداءً عن نفسِها، واللهُ تعالى لَنْ يقبلَ حينَها مِنْ أَحد،
مِمَّنْ كَفَرَ بالله، وَتَمَرَّدَ في الأرض، وأخذَ يتفننُ في قتلِ المسلمينَ بشتى
أنواعِ الأسلحةِ والسُّبُل.
"وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي
الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ ۗ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا
الْعَذَابَ" لكنَّ النَّدامَةَ في هذا الموقِفِ لا تَنْفَع.
وفي مَوْضِعٍ آخرَ يقولُ ربُّنا جلَّ وعَلا: "إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم
مِّلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَىٰ بِهِ ۗ"
بلْ والأعظمُ مِنْ ذَلكَ يَتَمَنّى مِنْ قَلْبِهِ أنْ يَفتدي
مِنْ العذابِ بِأَوْلادِهِ وزوجتِهِ وإخوانِهِ وعشيرَتِهِ وبالنَّاسِ جميعا "يَوَدُّ
الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ – وصاحبته وأخيه –
وفصيلته التي تؤويه – ومن في الأرض جميعًا ثم ينجيه"
واللهُ عزَّ وَجَل لا يَقْبَلُ مِنْ أحَدٍ فِداءً في ذلكَ
اليوم، مِمّن كَفَرَ بالله، وبارَزَ اللهَ بالمعاصي، وآذى اللهَ وآذى رَسولَ الله،
وآذى المؤمنين، لَنْ يقبلَ اللهُ عزَّ وَجَلَّ الفداء، وتخيل موقِفَ الكافرينَ
حينها، وقد جاءَتْ ملائكةُ النارِ تَجُرُّهُم بالسلاسل، تخيل موقِفَهُم وَهُم يُسْحَبونَ
إلى عذابِ اللهِ ربِّ العالمين.
"وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ
زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ
خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ
رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ۚ قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنْ
حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ - قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ
جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۖ فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ"
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فيا فوز المستغفرين
استغفروا الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، سلام على نبيه الذي اصطفى
جاءَ قولُ ربِّنا جلَّ وَعَلا "لَا يَغُرَّنَّكَ
تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ. مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ
جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ" تَسْلِيَةً لِرَسولِنَا صلى الله عليه وسلم،
وَتَسْلِيَةً لأَصحابِهِ رُضوانُ اللهِ عليهم، وَتَسْلِيَةً لَنَا في كُلِّ زَمانٍ
وَمَكان، حَتى وَإِنْ كانَ الكُفَّارُ مُتنعمونَ بالقوَّةِ والسَّيْطَرَةِ والْهَيْمَنَةِ
والَّلذاتِ والصِّحَةِ والمباني والتعليمِ والإدارةِ وكلِّ شَيء. فَلا تَخْدَعَنَّكُمُ
ألوانُ النَّعيم. فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ الذي مَكَّنَهُمْ قادِرٌ عَلى إِفْقارِهِم
وَسَلْبِهِم إِيَّاها وإذهابِ نَعيمِهِم وَسَحْقِ ثَرْواتهم.
وما الحربانِ العالميتنان منَّا ببعيد، أَلَمْ يَكُنْ مَرْكَزُها
الرئيسيّ في عُقْرِ دارِ الكُفار؟
ماذا حَصَلَ وقتها لأوروبا وروسيا وإيطاليا وألمانيا
وفرنسا واليابان؟
دَمارٌ حَلَّ وَقْتَهَا في كلِّ مَكان.
قُتِلَ عَشَراتُ الملايين.
وكذلكَ ما حَصَلَ لَهُم في الانهيارِ الاقتصاديِّ
والخسائرِ الماليةِ الضَّخْمَةِ وانهيارِ البنوكِ والمصانعِ في عامِ ألفين وثمانية.
وليسَ ذلكَ ببعيدٍ أنْ يَحْصُلَ لَهُم ما هُوَ أشدُّ منْ
ذلك.
بلْ إنَّ الأدلةَ الدالَةَ على أنَّ اللهَ سيُنْزِلُ بِهِم
عذابًا أليمًا واضحةٌ جليَّة.
يقول عز وجل: "وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ
مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا ۚ
كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا"
"وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم
بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ"
ويقول صلى الله عليه وسلم: "إنَّ حقًا على اللهِ
عزَّ وجلَّ ، أن لا يَرْتَفِعَ شيءٌ مِن الدُّنيا إلا وَضَعَه".
ألم يُخْبِر صلى الله عليه وسلم أنَّهُ ما مِنْ قَرْيَةٍ
فَشَا فيها الرِّبا والزِّنا إلا أَحَلُّوا بأنفُسِهِم عذابَ الله.
ألم يَذْكُرْ رَبُّنَا عَنْ قَوْمِ لوطٍ أنَّهُ ضربَهُم
بالصيحةِ وبالحجارةِ مِن سِجيلٍ منضود، وَقَلَبَ عاليها سافِلَها؟ وقال: "وما
هي من الظالمين ببعيد".
وهؤلاءِ حاليًا شَرّعوا اللواطَ والفاحِشَة، وجعلوا لها
حِمايَةً وَقوانين، وَأُسرةً مِنْ رَجُلٍ وَرَجُل؟ وَامرَأَةٍ وامرأة؟
ألَمْ يُهْلِكِ اللهُ قومَ عادٍ الذين طَغَوْا في البلاد
فأكثروا فيها الفساد؟
أليسَ هؤلاءِ قَوْمُ عادٍ الجدد، الذينَ يطغونَ في
البلادِ ويكثرونَ فيها الفساد؟
وربما يقول قائل: متى؟ وَلَمْ يَحْصُل شيئًا إلى الآن؟
وكلُّ النَكْبَاتِ علينا؟
في حين أنَّ الْمُشركينَ والْمُلحدينَ يُنكرون وجودَ
الله، ويؤذونَ اللهَ ورسولَه، ويعتدونَ على أهلِ الإسلامِ ويَظْلِمُونَهُم، وأهلُ
الإسلامِ يؤمنونَ باللهِ ورسولِه، وَيُصَلُّونَ ويُقيمون الشعائر، وهم في ذلك في
فقرٍ وجوعٍ واضطهاد، والمصائبُ تتوالى عليهم؟
والجوابُ هُنا: لَقَدْ أُعطِيَ الكُفَّارُ كُلَّ هذا
ابتلاءً واختبارًا ليسَ لَهُمْ فَحَسْب، وإنما للمسلمينَ أيضًا، فلو كانَ الْمُسلمونَ
دائمًا لَهُم القُوَّةُ والغَلَبَةُ في الدنيا، ولَهُم الجَنَّةُ في الآخرة فأين الْمِحَكَّاتِ
التي يُعْرَفُ فيها ثَبَاتُ مَنْ يَثْبُت؟
فالحِكْمَةُ الإلهيةُ تَقْتَضي تَدَاوُلَ الأيامِ بينَ
الناس "وتلكَ الأيامُ نُداولُها بينَ الناس".
ولكنكم تستعجلون.
وإلّا فالانتقامُ آتٍ قادمٌ لا مَحالة، نَسْأَلُ اللهَ
عزَّ وجلَّ أنْ يُعَجِّلَ هَلاكَ دُوَلِ الكُفْرِ والطغيانِ من اليهودِ والنَّصارى
وَمَنْ والاهُم، ومَنْ عَلى شاكِلَتِهِم وَأَذْنابِهِمُ التي تَدورُ في فَلَكِهِم،
وأَنْ يُحيينا حتى نَرَى نَصْرَ اللهِ وَعِزَّةِ الإسلامِ والمسلمين، وَلَيْسَ ذلكَ
على اللهِ ببعيد.
هذا واعلموا عباد الله أن الله قد أمركم بأمر عظيم بدأ
به بنفسه وثنى بملائكة قدسه، وثلث بكم فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ
يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ
وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
لبيك اللهم صلّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آل محمد،
كما صليت وسلمت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الصحابة والتابعين
وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين
اللهم انصر الإسلام والمسلمين
وأذل الشرك والمشركين
ودمر أعداء الدين
اللهم ارفع ما حل بإخواننا في فلسطين، اللهم انصر
المجاهدين، وارحم المستضعفين
اللهم أعنهم ولا تعن عليهم، ومكن لهم ولا تمكن منهم،
وانصرهم ولا تنصر عليهم
اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين خيرا فوفقه إلى كل خير
ومن أراد بالإسلام والمسلمين شرًا فخذه أخذ عزيز مقتدر
اللهم عليك باليهود ومن والهم / اللهم عليك باليهود ومن
ناصرهم
اللهم لا ترفع لهم راية / ولا تحقق لهم غاية / واجعلهم
عبرة وآية.
اللهم ملك البلاد أره الحق حقًا وارزقه إتباعه / وأره
الباطل باطلًا وارزقه اجتنابه
وهيئ له البطانة الصالحة، إن نسي ذكروه، وإن ذكر
أعانوه.وأنت يا أخي أقم الصلاة.
تعليقات
إرسال تعليق