قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)

 

إن الحمدَ لله، نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونستهديه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا، ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ لهُ،

يا ربِّ حمداً ليسَ غَيْرُكَ يُحْمَدُ     **     يا من لَهُ كُلُّ الخَلائِقِ تَصْمُدُ
أبوابُ غيرِكَ ربنا قد أوُصدت       **     ورأيتُ بابَكَ واسعاً لا يُوصَدُ

وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُ، وصفيه وخليله بلّغ الرسالة , وأدى الأمانة , ونصح الأمة , وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا  يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾.

 

 

أما بعد فيا عباد الله:

فقد أمر الله تعالى بتزكية النفس وتطهيرها من كل أمراضها المهلكة. وجعل الله تعالى ذلك سبباً للفلاح في الدنيا والآخرة. يقول الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾.

 وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم:«اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلبٍ لا يخشع، ومن نفسٍ لا تشبع، ومن دعوةٍ لا يستجاب لها».

وتزكية النفس تهذيبها بقمع أهوائها وشهواتها وتخليتها عن الرذائل والذنوب ما ظهر منها وما بطن: كالحقد، والحسد، والكِبر، والرياء، والغيبة، والنميمة، والشتم واللعن، وجميع مساوئ الأخلاق. فالمؤمن لا تستقيم نفسه إلا بالبعد عن المعاصي والذنوب صغيرها وكبيرها.

خَلِّ الذُنوبَ صَغيرَها                 وَكَبيرَها ذاك التُقى

        واعمل كماشٍ فَوقَ                 أَرضِ الشَوكِ يَحذُرُ ما يَرى

لا تَحقِرَنَّ صَغيرَةً                 إِنَّ الجِبالَ مِنَ الحَصى

فبعد تخلية المؤمن لنفسه وتطهيرها. يأتي دور تحليتها بالأخلاق الحسنة والفاضلة، كالإخلاص، والتواضع، والخوف، والرجاء، والشكر، والصدق، والوفاء، ونحوها من كل خلق سوي. وبذلك يسلك المؤمن طريق الجنة. يقول الله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾

ولهذا قال العلماء: "التخلية قبل التحلية".

وأول ما يبدأ به المسلم السالك في طريق التزكية هو معرفة الأخلاق الذميمة وأمراض القلب، والتعرف على أسبابها وطرق علاجها.

ثم يفتش في نفسه عنها فإن وجد شيئاً منها أدب نفسه وزجرها. وإن لم يجد قام باتهام نفسه حتى لا يستسلم لأهوائها وشهواتها. فإنها من شأنها أن تكون أمّارة بالسوء. يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.

يقول ابن عطاء الله رضي الله عنه: "أصل كل معصيةٍ وغفلة وشهوة، هو الرضا عن النفس، وأصل كل طاعة ويقظة وعفّةٍ عدم الرضا عنها".

فإذا اعترف المؤمن بأمراض نفسه. جاء دور مجاهدتها وقمعها عن غوايتها. ليستطيع توجيهها نحو الخير، ومنعها من الشر إلى أن يستحيي من الله. يقول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ». قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالحَمْدُ لِلَّهِ. قَالَ: «لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ المَوْتَ وَالبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ»

ولا ينبغي للمرء أن يحسن الظنّ بالنفس. فإنَّ حسن الظنّ بالنفس يُعيق عن التفتيش في مصائبها. بل على المرء أن يوبخها كلما دعته إلى شهوة ومعصية.

ومما يعين على تزكية النفس هو الإكثار من ذكر الله تعالى. عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُكْثِرُوا الكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّ كَثْرَةَ الكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَسْوَةٌ لِلْقَلْبِ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ القَلْبُ القَاسِي».

ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه ابن عمر: "إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد إذا أصابه الماء" قيل: يا رسول الله وما جلاؤها ؟ قال : "كثرة ذكر الموت وتلاوة القرآن".

ويقول صلى الله عليه وسلم: «أكثروا ذكر هادم اللذات»، يعني الموت.

إنّ الحياة قليلة لذاتها              والموت فيها هادم اللذات

ما أقصر الأعمارَ عند رحيلنا         فكأنها ومض من اللحظات

فمتى زكت نفس المؤمن ارتقت من كونها أمارة بالسوء تأمر صاحبها بالمنكر إلى نفس لوامة تلومه إن فعل منكراً أو ترك واجباً. يقول الله تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾.

حتى ترتقي لتصبح نفساً مطمئنة تتمنى الرجوع إلى بارئها. يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾.

ومن زكت نفسه استقامت حياته ونال السعادة في الدنيا والاخرة، فبذل نفسه رخيصة في سبيل الله تعالى.

وقد كان من دأب الصحابة رضوان الله عليهم أن يذكر بعضهم بعضًا بذكر الله عز وجل، حتى كان الواحد فيهم يقول لصاحبه: تعال نؤمن ساعة، فيجلسان فيذكران الله تعالى.

إخوة الإيمان:

إنّ النقص والتقصير والخطأ لا ينفك عنه إنسان، ولا يسلم منه إلا من عصمه الله تعالى، ولذا جاء الأمر بالتوبة للناس كافة، قال عزّ وجل: "وتوبوا إلى الله جميعًا أيهَ المؤمنون لعلكم تفلحون".

وأمر ربنا جل وعلا بلزوم التقوى، وجعل في ذلك فلاحنا، ونهانا عن الفجور وبين لنا أنّ في ذلك خسراننا، فكل نفس في الدنيا عاملة: فإما أن تكون ساعية في تزكية نفسها لتكون من المفلحين في الدنيا والآخرة، وإما أن تكون ساعية في شهواتها وأهوائها لتكون من الخائبين الخاسرين، فأفلح من زكاها، وخاب وخسر من دساها بالبعد عن الطاعة والإكثار من المعصية.

واعلم يا رعاك الله أنّ من جاهد نفسه في الدنيا ونهاها عن الهوى كان له الفوز يوم القيامة: "ومن يأته مؤمنًا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى، جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى".

فاحرصوا إخوتي على تزكية أنفسكم في هذه الأيام الفضيلة، يقول الفاروق عمر رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر يوم لا تخفى منكم خافية، فإنما يخفّ الحساب يوم القيامة عمن حاسب نفسه في الدنيا).

قف مع نفسك وقفة صدق قبل أن تقف بين يدي الملك الجليل للسؤال عن الكثير وعن القليل "فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره".

يقول صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله يوم القيامة، تخيل هذا المشهد وأنت لا تستطيع أن تقف ساعة في قاعة محكمة من محاكم الدنيا أمام قاضٍ من قضاة الأرض، أمام قضية أنت مدان فيها، لا تنام الليل ولا النهار، ولا تستلذ بطعام ولا بشراب إن علمت أنك متهم في قضية ربما تتعرض فيها لحكم خطير، فما بالك إن وقفت بين يدي الملك الحق حافيًا عاريًا كما ولدتك أمك، "ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلِّمُه اللهُ يومَ القيامةِ ، ليس بينه وبينه تَرجمانُ ، فينظرُ أيْمنَ منه، فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظرُ أشأَمَ منه، فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظرُ بين يدَيه، فلا يرى إلا النَّارَ تِلقاءَ وجهِه، فاتَّقوا النَّارَ، ولو بشِقِّ تمرةٍ، ولو بكلمةٍ طيِّبةٍ.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فيا فوز المستغفرين استغفروا الله.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى، وسلام على نبيه الذي اصطفى

وما دمنا بصدد الحديث عن تزكية النفس وصلاحها، فمن باب أولى أن نتحدث عن صلاح أحوال الأمة ونصرها، فلن يصلح حالنا ولن تصلح أمتنا ولن تصلح أمورنا إلا بصلاح نفوسنا، ولعلنا نتساءل كيف تنصلح الأحوال والنفوس تحمل الأحقاد والأراض والأدران، كيف تنصلح الأحوال ونحن نرى أمة الإسلام وهنت عروبتها ومروءتها، وأخضعت إنسانيتها لطغيان الصهاينة وجبروتهم، كيف تنصلح أحوال ونحن نهنأ بالعيش وإخواننا يمنعون الغذاء والماء والدواء؟

بل وآلاف الشاحنات الإغاثية تنتظر أن يؤذن لها بالدخول؟

في خضوع وهوان وخنوع واستسلام لم يمرّ على الأمة مثلُه عبر تاريخها.

كيف يحدث هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس بمؤمن من باتَ شبعان وجارُهُ إلى جنبه جائعُ وهو يعلم.

ولعل هذا الحال الذي أضحت به غزة اليوم يذكرنا بما وقع مع رسولنا صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين حاصرتهم قريش، فقرروا مكيدة غير مسبوقة، وهي المقاطعة لبني هاشم وبني المطلب مقاطعة كاملة، فلا يبايعونهم ولا يؤاكلوهم ولا يجالسوهم ولا يخالطوهم، وكتبوا بنود المقاطعة في صحيفة وعلقوها في جوف الكعبة، حتى دعا النبي صلى الله عليه وسلم على من كتب بنودَ المقاطعة فشلت يده، واستمر الحال لثلاث سنين جوع وعطش ومقاطعة وحصار حتى أنّ أحدهم كان يأكل التمرة فيمصًّ النواة يومًا ويومين لشدة جوعه، بل أكلوا أوراق الأشجار من شدة جوعهم، وارتفع صياح الأطفال والنساء، بل وصل الحال ببعضهم إلى أنه كان إن وجد جلد دابة حرقه وأكله من شدة الجوع (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) أيّ فتنة أعظم من هذه؟

وما أشبه اليوم بالبارحة: إذ لا يجد أهل غزة ما يأكلوه، حتى وصل الحال بهم إلى أكل علف الدواب (وحسبنا الله ونعم الوكيل).

وبالعودة إلى حصار بني هاشم ورسولنا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قام رجل مشرك واسمه هشام بن عمرو بعد ثلاث سنوات لم يرضَ بما يحصل من ظلم وجور، مشرك لكن حميته العربية والإنسانية أبت إلا أن ترفض الظلم، في الوقت الذي ما حركت حمية عربية ولا إسلامية ولا إنسانية أممًا تدعي العدل زورًا.

وذهب هشام هذا إلى زهير بن أبي أمية فقال يا زهير: أترضى أن نأكل ولا يأكلون؟ وأن نشرب ولا يشربون؟

فقال زهير: إنما أنا رجل واحد ماذا أفعل؟

فقال: أنا معك. وبحثوا عن ثالث ورابع حتى صاروا خمسة.

واتفقوا أنه إذا جاء الصباح توجهوا إلى تلك الصحيفة ومزقوها، فقام زهير فنادى: أنا لا أرضى بهذه الصحيفة. أترضون أن يموت الناس أمامكم؟ إنما بينكم وبينهم أرحام، وعمدوا إلى تمزيق الصحيفة فاعترضهم أبو جهل، وما أكثر من يشبه أبو جهل في أيامنا هذه، حتى إذا أمسكوا بالصحيفة وجدوا دودة الأرض قد أكلتها إلا اسم الله تعالى فيها، وفرج الله عن المسلمين حينها.

نسأل الله تعالى أن تمزق كل صحائف منظمات الظلم الدولية، وأن يمزق كل من أساء أو قصّر أو تخاذل في نصرة أهلنا وإخواننا في غزة.

 

واعلموا عباد الله أن الله قد أمركم بأمر عظيم بدأ به بنفسه وثنى بملائكة قدسه، وثلث بكم فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.

لبيك اللهم صلّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آل محمد، كما صليت وسلمت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

 

 

 

 

 

وارض اللهم عن الصحابة والتابعين

وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين

اللهم انصر الإسلام والمسلمين

وأذل الشرك والمشركين

ودمر أعداء الدين

اللهم ارفع ما حل بإخواننا في فلسطين، اللهم انصر المجاهدين، وارحم المستضعفين

اللهم أعنهم ولا تعن عليهم، ومكن لهم ولا تمكن منهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم

اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين خيرا فوفقه إلى كل خير

ومن أراد بالإسلام والمسلمين شرًا فخذه أخذ عزيز مقتدر

اللهم عليك باليهود ومن والهم / اللهم عليك باليهود ومن ناصرهم

اللهم لا ترفع لهم راية / ولا تحقق لهم غاية / واجعلهم عبرة وآية.

اللهم ملك البلاد أره الحق حقًا وارزقه إتباعه / وأره الباطل باطلًا وارزقه اجتنابه

وهيئ له البطانة الصالحة، إن نسي ذكروه، وإن ذكر أعانوه.

وأنت يا أخي أقم الصلاة.